قطعتوالدة محمود درويش، على نفسها وعداً بالصمت دام أربعين سنة، رفضت خلالها اجراء أيحديث صحافي. لكنها وافقت بعد محاولات، على التحدث الينا، شارحة: «شو بدي احكيلك. ماضل عندي نِفْس للحكي. طلعة محمود مش هوينة عليّ؟ الله بيعلم، بشكي أمري لله. نصيبهانه يعيش بهديك البلاد. 37 سنة في الغربة»، تقول بصوتها الهادئ تارة والغاضب تارةأخرى.
بلغت التسعين من العمر. الزمن بأحداثه الدراماتيكية حفر أخاديد علىوجنتيها وترك اثره بعض الشيء على صحتها. لكنها مثل الصبايا تصر بعناد علىاستقلاليتها والاعتماد على نفسها، ترفض بشدة اية مساعدة قد يعرضها ابناؤها اوبناتها. تعيش في بيت مستقل، بناءً على رغبتها، في قرية «جديدة الجليلية» الى جانببيوت اولادها. عندما وصلنا للقائها كانت «مشمرة» ثيابها، وقد انهت للتو أعمالهاالمنزلية، في يوم شتائي مشمس. أردنا مقابلتها لنتعرف على الجانب الانساني من شخصيةابنها محمود، أو لنتعرف عليها كأم لشاعر كبير، لا بد كان لها دور كبير في بناءشخصيته، فوجدنا أنفسنا إزاء أم صبور، شاعرة ومربية لجيل من المبدعين. ما زالت تتمتعبذاكرة خصيبة، وتسهب في الحديث عن «محمود الغالي»، هكذا تصفه، «كل عمره يحب الحرية. الدنيا ما كانت واسعته. ترك البيت وهو في الثأمنة عشرة من العمر ليسكن في حيفا. اسرائيل منعته من مغادرة حيفا من مغيب الشمس حتى شروقها، لكنه ما قاطعني. كان يصلإلي في النهار، يقول لي: يما جاي بس أشوفك. دقائق معدودة ويرجع لحيفا. بعدين ماتحمل العيشة هون. ترك من دون ما يخبرنا انه رايح ومش راجع. عرفنا بعدين من الاذاعةان جمال عبد الناصر استقبله في مصر».
تكلمت بألم شديد، كما لو ان محمودغادرها للتو. فالحديث عن هذا الغياب يحرك فيها جرحا نازفا. فنضطر الى الانتقاللموضوع آخر، عنها هي. ونكتشف انها تجيد الغناء الفلكلوري وتؤلف الكثير منه. سنواتطويلة رددت الأغاني في الأفراح العائلية، وفي كل عرس كانت هناك أبيات، تخصصهالمحمود. تروي لنا انه في حفل زفاف حفيدها البكر اتصل محمود ليهنئهم، وصادف ذلك وقتالزفة، فتركت خط الهاتف مفتوحاً، لتغني له على مسمعه ومسمع الحاضرين:
«محمود الدرويش يا سيفين يوم الحرب
يا شمع مكّة يا قمر ضاوي عالدرب
اطلع ع الخطاب يا قوي القلب
أضرب بسيفك وعليّ مشانق عالدرب».
«في كل عرس بغني له وفي كل مناسبة نبكي لأنه مش معنا» تضيف. ولكيتنقشع غيمة الحزن، تغير ابنتها وكنتاها اللواتي حضرن اللقاء، الموضوع قائلات: «هلعرفت الآن من أين موهبة الشعر التي يمتلكها محمود؟ انها من والدته. وعندما نسألهامن أين تعرف كل هذا فتجيب مازحة: «من حليب أمي».
محمود هو الثاني بينثمانية أشقاء. اخوه البكر أحمد، يكتب القصة والشعر، والأصغر منه زكي يكتب القصة. الاثنان يحظيان باحترام كبير في الساحة الأدبية المحلية. والشقيق الأصغر، نصوحي،نشر عدة خواطر ونظم عدة قصائد. عائلة حميمية، لكن غياب محمود عنها يترك آلاما شديدةلديها خاصة وانه يحتاج في كل مرة الى تصريح من اسرائيل لزيارتها. فالشاعر الذييستطيع ان يلف العالم، لا يمكنه عبور الحاجز العسكري من رام الله، ليصل الى والدتهوأشقائه في الجليل.
زيارته الاولى الى عائلته جاءت بعد 28 عاماً من قرارهمغادرة الوطن والانضمام الى صفوف منظمة التحرير الفلسطينية. حضوره جاء بعد اتفاقياتاوسلو، وكان بمثابة عرس حضره آلاف من فلسطيني 48. بعدها كل المحاولات للحصول علىتصريح لمحمود فشلت، لكن الموافقة جاءت أخيرا بعد ست سنوات من زيارته الاولى بسببمرض شقيقه، وقد اضطرت العائلة الى ارفاق تقارير طبية من المستشفى الذي يعالج فيهابنهم مع طلب التصريح بالزيارة
منقول