عينان تائهتان في الألوان.
خضراوان قبل العشب.
زرقاوان قبل الفجر.
تقتبسان لونَ الماء،
ثم تُصوّبان إلى البحيرةِ نظرة عسلية،
فيصيرُ لونُ الماء أخضر..
لا تقولان الحقيقة.
تَكْذبان على المصادر والمشاعر.
تنظران إلى الرماديّ الحزين،
وتُخفيان صفاته.
وتُهيّجان الظلِّ بين الليلكيّ
وما يشعّ من البنفسجِ في التباسِ الفرق.
تَمتلئان بالتأويل، ثم تحيّران اللون: هل هو
لازورديّ أم اختلطَ الزُمُرّدُ بالزبرجدِ والتركواز
المُصَفّى؟
تَكبران وتَصغران كما المشاعر..
تكبران إذا النجومُ تنَزّهتْ فوق السطوح.
وتصغران على سريرِ الحبّ.
تنفتحان كي تستقبلا حلماً ترقرقَ في جفونِ الليل.
تنغلقان كي تستقبلا عسلاً تدفّقَ من قفيرِ النحل.
تنطفئان كاللاشيء شعرياً، غموضاً عاطفياً
يُشعلُ الغابات بالإقمار. ثم تعذّبان الظلّ:
هل يخضوضرُ الزيتيُّ والكحليّ فيَّ أنا الرماديَّ المحايد؟
تنظران إلى الفراغ. وتكحّلان بنظرةٍ لوزيةٍ طوقَ الحمامة.
تفتحان مراوحَ الخُيلاء للطاووس في إحدى الحدائق.
ترفعان الحَوْر والصفصاف أعلى ثم أعلى.
تهربان من المرايا، فـــهي أضيق منهما.
وهما هما في الضوء
تلتفتان للاشيء حولهما فينهضُ، ثم يركضُ
لاهثاً، وهما هما في الليل مرآتان للمجهول
من قدري. أرى، أو لا أرى، ماذا يعدّ الليلُ
لي من رحلةٍ جويةٍ - بحريّة. وأنا أمامهما
أنا أو لا أنا. عينان صافيتان، غائمتان،
صادقتان، كاذبتان عيناها. ولكن، منْ هي؟
للعدوّ الذي يشرب الشاي في كوخنا فرسٌ في الدخان.
وبنتٌ لها حاجبان كثيفان.
عينان بنّيتان.
وشعرٌ طويلٌ كليل الأغاني على الكتفين.
وصورتها لا تفارقه كلّما جاءنا يطلب الشاي.
لكنّه لا يحدّثنا عن مشاغلها في المساء،
وعن فرسٍ تركته الأغاني على قمّة التلّ...
... في كوخنا يستريح العدوّ من البندقيّة،
يتركها فوق كرسيّ جدّي.
ويأكل من خبزنا مثلما يفعل الضيف.
يغفو قليلاً على مقعد الخيزران.
ويحنو على فرو قطّتنا.
ويقول لنا دائمًا:
لا تلوموا الضحيّة!
نسأله: من هي ؟
فيقول: دمٌ لا يجفّفه الليل.../
... تلمع أزرار سترته عندما يبتعد
عم مساءً! وسلّم على بئرنا
وعلى جهة التين. وامش الهوينى على
ظلّنا في حقول الشعير. وسلّم على سرونا
في الأعالي. ولا تنس بوّابة البيت مفتوحةً
في الليالي. ولا تنس خوف الحصان من الطائرات،
وسلّم علينا، هناك إذا اتّسع الوقت.../
هذا الكلام الذي كان في ودّنا
أن نقول على الباب... يسمعه جيّدًا
جيّدًا، ويخبّئه في السّعال السريع
ويلقي به جانبًا.
فلماذا يزور الضحيّة كلّ مساءٍ ؟
ويحفظ أمثالنا مثلنا،
ويعيد أناشيدنا ذاتها،
عن مواعيدنا ذاتها في المكان المقدّس ؟
لولا المسدس
لاختلط الناي في الناي ...
... لن تنتهي الحرب ما دامت الأرض فينا تدور على نفسها!
فلنكن طيّبين إذًا. كان يسألنا أن نكون هنا طيّبين.
ويقرأ شعرًا لطيّار (ييتس):
أنا لا أحبّ الذين أدافع عنهم،
كما أنني لا أعادي الذين أحاربهم...
ثم يخرج من كوخنا الخشبيّ،
ويمشي ثمانين مترًا إلى
بيتنا الحجريّ هناك على طرف السّهل.../
سلّم على بيتنا يا غريب.
فناجين قهوتنا لا تزال على حالها.
هل تشمّ أصابعنا فوقها ؟
هل تقول لبنتك ذات الجديلة والحاجبين الكثيفين إنّ لها صاحبًا غائبًا،
يتمنّى زيارتها، لا لشيءٍ...
ولكن ليدخل مرآتها ويرى سرّه:
كيف كانت تتابع من بعده عمره
بدلاً منه؟ سلّم عليها
إذا اتّسع الوقت...
هذا الكلام الذي كان في ودّنا
أن نقول له، كان يسمعه جيّدًا جيّدًا،
ويخبّئه في سعالٍ سريع،
ويلقى به جانبًا، ثم تلمع
أزرار سترته، عندما يبتعد...
سلّم على بيتنا، يا محمود درويش
د. فايز أبو شمالة
سلّم على بيتنا يا غريب،
فناجين قهوتنا لا تزال على حالها،
هل تشمُّ أصابعنا فوقها؟
نعم، يا محمود درويش، بهذه البساطة في الجملة الشعرية، أعلنت موقفك، وحسمت أمر الصراع السياسي على الأرض الفلسطينية، وداويت بوجدانك الجرح الذي يحاول عدوك ترميمه على فسادٍ، وبهذا النقاء الوجداني تصير قريباً، ويظل عدوك غريباً، يشم بصمات أصابعك على فنجان قهوتك الذي صار بالإرهاب فنجان قهوته، ويتبع خطوة أقدامك، التي صارت بالدبابة خطوته، ويقلد تراثك، وسيرتك، لتصير تاريخه المزيف، ويقلم شجرك، ويعلف طيرك، ويتسلق على نجومك، ويستسقي المطر من سمائك، ويبعثر أمنياتك، ويقطف ثمرك، لتصير له دولة لا يزال فيها غريباً، يا قريباً، وهاجساً يقلق راحة الغريب، وهو يتلمس وجودك الغائب في حجرة نومه، ويستشعر وقع أقدامك على سطح منزلك، وسيظل غريباً تطل عليه من نافذة الأحلام الليلة، رغم طائراته، وأجهزة التصنت، عدوك لا يزال غريباً عن هذه الأرض التي جاءك ملك الموت وأنت غريباً عنها، أيها القريب الذي ما اتسعت واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط على احتواء جسدك حيث المنبت الذي أحببت، يحسبك بعيداً عنها، وأنت فيها منذ ستين سنة من الاغتصاب لتراب فلسطين، لا يزال غريباً عنها، وأنت القريب منها يا محمود، رغم مسافات الألم التي تفصل قلبك الفلسطيني عن شرايين الجسد، ورغم حالة الانحطاط التي تمر بالمفاصل الفلسطينية، ورغم وهن العضلات العربية.
يا محمود درويش، لطالما وقفنا ببابك، نتعلم منك فن الترتيل، وهدير المعاني، وفن الترتيب ووشوشة الأغاني، وأخذنا عنك، وامتصصنا رحيق خيالك العذب في توليف الصورة الفنية، لقد تزودنا من شعرك في مسغبة السجون يوماً، ونحن نردد في الزنازين خلفك:
وطني، يعلمني حديد سلاسلي عنف النسور، ورقة المتفائل
ما كنت أحسب أن تحت جلودنا ميلاد عاصفة، وعرس جداول
سدوا على النور في زنزانة فتوهجت في القلب شمس مشاعل
اليوم نجمع عليك، وتلتقي كل الأطياف الفلسطينية خلفك على كلام من حرير، أنت المتوج بزهر الفكرة والتعبير، نمشي بقامتك الممشوقة خطوات الثقة بفك القيد، والتحرير، أيها العائد إلى فلسطين ممداً في الكفن، كي تؤنس البيت الذي أوحش بالخلافات بين أخوة الدم، والمصير، إن البيوت تموت إذا غاب أصحابها، نتوحد اليوم تحت شمس آب بعد غياب، ونحن نردد معك ما عايشته كل أم، وأخت، وابنه، وامرأة فلسطينية، تناجي السحابة قائلة لها:
غطي حبيبي
فإن ثيابي مبللةٌ بدمه
كل ثياب الفلسطينيين مبللة بدم الشهداء، وكل أجسادهم عارية من دون ذلك الثوب المبلل كبرياء، وكل نفوس الفلسطينيين خاوية إن لم يبد منهم حرصاً، ونهجاً، وفعلاً يغطي بالحوار الفلسطيني عورة قضيتهم المكشوفة، ويستر بالوحدة الوطنية الإسلامية سوءتهم، ويغطي بالتسامح، والصفح، والمحبة جسدك، وأجساد الشهداء المتحرقة تحت شمس التفرقة الملتهبة، والانقسام المقيت، والتمزق البائس.
نم يا محمود درويش، نم في حضن التراب الذي انشق عن شعبٍ أبيٍّ لا يعرف الوهن، نم، فقد تدلت قطوف شعرك المقاوم على الروابي كالزمن، وظلّلت رؤيتك الثوابت الوطنية في المحن، نم يا محمود، فقد أورقت أغصان روحك وفاءً، وكبرياءً في الكفن.
وإنّ غداً سينبت في أجنحة السياسة الفلسطينية ريش التآخي، والكرامة، والشجن.
يطير الحمام يحط الحمام
أعدّي لي الأرض كي أستريح
فإني أحبّك حتى التعب
صباحك فاكهةٌ للأغاني وهذا المساء ذهب
ونحن لنا حين يدخل ظلٌّ إلى ظلّه في الرخام
وأشبه نفسي حين أعلّق نفسي على عنقٍ
لا تعانق غير الغمام
وأنت الهواء الذي يتعرّى أمامي كدمع العنب
وأنت بداية عائلة الموج حين تشبّث بالبرّ حين اغترب
وإني أحبّك، أنت بداية روحي، وأنت الختام
يطير الحمام
يحطّ الحمام
أنا وحبيبي صوتان في شفةٍ واحده
أنا لحبيبي أنا. وحبيبي لنجمته الشارده
وندخل في الحلم، لكنّه يتباطأ كي لا نراه
وحين ينام حبيبي أصحو لكي أحرس الحلم مما يراه
وأطرد عنه الليالي التي عبرت قبل أن نلتقي
وأختار أيّامنا بيديّ كما اختار لي وردة المائده
فنم يا حبيبي ليصعد صوت البحار إلى ركبتيّ
ونم يا حبيبي لأهبط فيك وأنقذ حلمك من شوكةٍ حاسده
ونم يا حبيبي عليك ضفائر شعري، عليك السلام
يطير الحمام
يحطّ الحمام
رأيت على البحر إبريل
قلت: نسيت انتباه يديك
نسيت التراتيل فوق جروحي
فكم مرّةً تستطيعين أن تولدي في منامي
وكم مرّةً تستطيعين أن تقتليني لأصرخ
إني أحبّك كي تستريحي
أناديك قبل الكلام أطير بخصرك قبل وصولي إليك
فكم مرّةً تستطيعين أن تضعي في مناقير هذا الحمام
عناوين روحي
وأن تختفي كالمدى في السفوح
لأدرك أنّك بابل، مصر، وشام
يطير الحمام يحطّ الحمام
إلى أين تأخذني يا حبيبي من والديّ
ومن شجري، من سريري الصغير ومن ضجري،
من مراياي من قمري، من خزانة عمري
ومن سهري، من ثيابي ومن خفري
إلى أين تأخذني يا حبيبي
إلى أين تشعل في أذنيّ البراري
تحمّلني موجتين وتكسر ضلعين، تشربني ثم توقدني،
ثم تتركني في طريق الهواء إليك
حرامٌ... حرام
يطير الحمام يحطّ الحمام
- لأني أحبك، خاصرتي نازفه
وأركض من وجعي في ليالٍ يوسّعها الخوف مما أخاف
تعالى كثيرًا، وغيبي قليلاً تعالى قليلاً، وغيبي كثيرًا
تعالى تعالى ولا تقفي، آه من خطوةٍ واقفه
أحبّك وأحضن هذا الشعاع المطوّق بالنحل والوردة الخاطفه
أحبك يا لعنة العاطفه
أخاف على القلب منك
أحبّك
أحبك يا جسدًا يخلق الذكريات ويقتلها قبل أن تكتمل
أحبك أطوّع روحي على هيئة القدمين
- على هيئة الجنّتين أحكّ جروحي بأطراف صمتك.. والعاصفه
أموت، ليجلس فوق يديك الكلام
يطير الحمام يحطّ الحمام
لأني أحبّك (يجرحني الماء) والطرقات إلى البحر تجرحني
والفراشة تجرحني وأذان النهار على ضوء زنديك يجرحني
يا حبيبي، أناديك طيلة نومي، أخاف انتباه الكلام
أخاف انتباه الكلام إلى نحلة تبكي
لأني أحبّك يجرحني الظلّ تحت المصابيح، يجرحني طائرٌ في السماء البعيدة،
عطر البنفسج يجرحني أوّل البحر يجرحني آخر البحر يجرحني
ليتني لا أحبّك
يا ليتني لا أحبّ ليشفى الرخام
يطير الحمام يحطّ الحمام
- أراك، فأنجو من الموت.
جسمك مرفأ
بعشر زنابق بيضاء، عشر أنامل تمضي السماء
إلى أزرقٍ ضاع منها
أراك، فأنجو من الموت. جسمك مرفأ
فكيف تشرّدني الأرض في الأرض
كيف ينام المنام
يطير الحمام يحطّ الحمام
حبيبي، أخاف سكوت يديك فحكّ دمي كي تنام الفرس
حبيبي، تطير إناث الطيور إليك فخذني أنا زوجةً أو نفس
حبيبي، سأبقي ليكبر فستق صدري لديك ويجتثّني من خطاك الحرس
حبيبي، سأبكي عليك عليك عليك لأنك سطح سمائي
جسمي مقام
يطير الحمام يحطّ الحمام
رأيت على الجسر أندلس الحبّ والحاسّة السادسه
على وردة يابسه أعاد لها قلبها وقال: يكلفني الحبّ ما لا أحبّ يكلفني حبّها
ونام القمر على خاتم ينكسر وطار الحمام
رأيت على الجسر أندلس الحب والحاسّة السادسه
على دمعةٍ يائسه أعادت له قلبه وقالت
يكلفني الحبّ ما لا أحبّ يكلفني حبّه ونام القمر على خاتم ينكسر
وطار الحمام
وحطّ على الجسر والعاشقين الظلام
يطير الحمام يطير الحمام
أمر باسمك إذ أخلو إلى نفس
كما يمرّ دمشقي بأندلسي
هنا أضاء لك الليمون ملح دمي
وهاهنا وقعت ريح عن فرسي
أمر باسمك لاجيش يحاصرني
ولابلاد كأنني آخر الحرس
أو شاعر يتمشّى في قصيدته.
في دمشق تطير الحمامات
خلف سياج الحرير
اثنتين ثنتين
في دمشق ارى لغتي كلها على حبة قمح مكتوبة
بأبرة انثى ينقحها حجر الرافدين.
في دمشق تطرز أسماء خيل العرب
من الجاهلية حتى القيامة أو بعدها
بخيوط الذهب
في دمشق تسير السماء على الطرق القديمة
حافية حافية
فما حاجة الشعراء الى الوزن و القافية
لم اسمع ابدا عاشقين يقولان شكرا
ولكن شكرا لك لانك انت من انت
حافظي على نفسك يا تونس
سنلتقي على ارض اختك فلسطين
هل نسينا شيئا وراءنا
نعم نسينا تلفت القلب
و تركنا فيك خير ما فينا
تركنا فيك شهداءنا الذين نوصيك بهم خيرا